فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

(97) سورة القدر:
نزولها: مكية، وقيل مدنية.
نزلت بعد سورة (عبس).
عدد آياتها: خمس آيات.
عدد كلماتها: ثلاثون كلمة.
عدد حروفها: مائة واثنا عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة (العلق) بقوله تعالى: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ واقترب} وجاءت بعد ذلك سورة القدر، وفيها تنويه بشأن هذا القرآن الذي أنزل على النبي، والذي هداه ربه، وملأ قلبه إيمانا ويقينا بعظمته وجلاله..وبهذا الإيمان الوثيق يتجه النبي إلى ربه لا يخشى وعيدا، ولا يرهب تهديدا..
بسم اللّه الرحمن الرّحيم
الآيات: (1- 5) [سورة القدر (97): الآيات 1- 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي ليلة القدر (1) وَما أَدْراكَ ما ليلة القدر (2) ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أمر (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفجر (5)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي ليلة القدر}..
الضمير في {أنزلناه} يعود إلى القرآن الكريم، وهو وإن لم يجر له ذكر سابق في السورة، إلا أنه مذكور بما له من إشعاع يملأ الوجود..فإذا نزل شيء من عند اللّه، فهو هذا القرآن، أو فيض من فيض هذا القرآن..
وليلة القدر، هي الليلة المباركة، التي أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيمٍ أمرا مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [3- 6: الدخان]. وهى ليلة من ليالى رمضان، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [185: البقرة] ومعنى {أَنْزَلْناهُ فِي ليلة القدر} أي ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، وهى الليلة التي افتتح فيها الوحى، واتصل فيها جبريل بالنبي، قائلا له: {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق}.
وقد اختلف في أي ليلة من ليالى رمضان ليلة القدر، وأصح الأقوال أنها في العشر الأواخر من رمضان..واختلف كذلك أي ليلة هي في الليالى العشر، وأصح الأقوال كذلك أنها في الليالى الفردية، أي في الليلة الحادية والعشرين، أو الثالثة والعشرين، أو الخامسة والعشرين أو السابعة والعشرين أو التاسعة والعشرين..وأصح الأقوال هنا أنها الليلة السابعة والعشرون، أي الليلة السابعة من العشر الأواخر من رمضان..
وهذا ما يروى عن ابن عباس من أنه قال: هي سابعة تمضى أو سابعة تبقى من العشر الأواخر من رمضان، وقد سئل في هذا فقال: نظرت في كتاب اللّه فرأيت أن اللّه سبحانه قد جعل خلق الإنسان في سبع، فقال تعالى: {وَلَقَدْ خلقنا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قرار مَكِينٍ ثُمَّ خلقنا النُّطْفَةَ علقةً فَخلقنا الْعلقةَ مُضْغَةً فَخلقنا الْمُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خلقا آخَرَ} [12- 14: المؤمنون] ورأيت أن اللّه سبحانه وتعالى جعل رزقه في سبع، فقال تعالى: {أَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْبًا وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ} [27- 32: عبس] ورأيت أن اللّه خلق سبع سموات، وسبع أرضين، وسبعة أيام..
هذا وقد استظهر بعضهم أنها الليلة السابعة والعشرون، وذلك بأن عدد كلمات السورة من أولها إلى قوله تعالى: {هي} سبع وعشرون كلمة..
وهذا يعنى أن كل كلمة تعدل ليلة من ليالى رمضان، حتى إذا كانت ليلة القدر جاءت الإشارة إليها بقوله تعالى: {هي} أي هي هنا عند الكلمة السابعة والعشرين، أو الليلة السابعة والعشرين..
وفى محاولة تحديد هذه الليلة تكلف، لا تدعو إليه الحاجة، فهى ليلة من ليالى رمضان، وكفى، ولو أراد سبحانه وتعالى بيانها لبينها، وإنما أراد سبحانه إشاعتها في ليالى الشهر المبارك كله، ليجتهد المؤمنون في إحياء ليالى الشهر جميعه!..
وسميت ليلة {القدر} بهذا الاسم، لأنها ذات شأن عظيم، وقدر جليل، لأنها الليلة التي نزل فيها القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان،
إنها الليلة التي توزن فيها أقدار الناس حسب قربهم وبعدهم من كتاب اللّه، ويفرق فيها بين المحقّين والمبطلين..
وقد أشار إليها اللّه سبحانه وتعالى في سورة أخرى بقوله: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيمٍ} أي يبين فيها حكم اللّه فيما هو حلال أو حرام، وحق أو باطل، وهدى أو ضلال، وذلك بما نزل فيها من آيات اللّه..
وقوله تعالى: {وَما أَدْراكَ ما ليلة القدر}؟
تنويه بشأن هذه الليلة، وتفخيم لقدرها، وأنها ليلة لا يدرى أحد كنه، عظمتها، ولا حدود قدرها..
قوله تعالى: {ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر}.
اختلف في تحديد المفاضلة بين هذه الليلة وبين الألف شهر..وقد تواردت على هذا مقولات وأخبار شتى..
ونقول- واللّه أعلم- إنه ليس المراد من ذكر الألف شهر وزن هذه الليلة بهذا العدد من الأيام والليالى والسنين، وأنها ترجح عليها في ميزانها، وإنما المراد هو تفخيم هذه الليلة وتعظيمها، وأن ذكر هذا العدد ليس إلا دلالة على عظم شأنها، إذ كان عدد الألف هو أقصى ما تعرفه العرب من عقود العدد. عشرة، ومائة، وألف، ومضاعفاتها.
وإذن فهى ليلة لا حدود لفضلها، ولا عدل لها من أيام الزمن ولياليه، وإن بلغت ما بلغت عدّا.
وقدر هذه الليلة، إنما هو- كما قلنا- في أنها كانت الظرف الذي نزل فيه القرآن، والوعاء الذي حمل هذه الرحمة العامة إلى الإنسانية كلها..إنها الليلة الولد التي بزغت فيها شمس الهدى، على حين أنه قد تمضى مئات وألوف من الليالى عقيما لا تلد شيئا ينتفع به، ولا تطلع على الناس ببارقة من خير يتلقونه منها:
إن شأن هذه الليلة في الليالى، شأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الإنسانية..
إنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وأحد الإنسانية، ومجدها وشرفها، وهى واحدة ليالى الزمن، ومجده، وشرفه..فكان التقاؤها بالنبي على رأس الأربعين من عمره- وقد توجه ربه بتاج النبوة- كان، التقاء جمع بين الزمن مختصرا في ليلة، وبين الإنسانية مختصرة في إنسان، هو رسول اللّه..
وكان ذلك قدرا مقدورا من اللّه العزيز الحكيم.
وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي يتنزل فيها جبريل عليه السلام، الذي هو مختص بتبليغ الوحى، والاتصال بالنبيّ..أما الملائكة الذين يحفون به، فهم وفد اللّه معه لحمل هذه الرحمة إلى رسول اللّه، وإلى عباد اللّه..وهم إنما يتنزلون بأمر اللّه كما يقول سبحانه: {وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأمر رَبِّكَ} [64: مريم] فجبريل لم يكن ينزل وحده بالوحى، وإنما كان ينزل في كوكبة عظيمة من الملائكة تشريفا وتكريما، لما يحمل إلى رسول اللّه من آيات اللّه..يقول الأستاذ الإمام محمد عبده: وإنما عبر بالمضارع في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} وقوله: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيمٍ}- مع أن المعنى ماض، لأن الحديث عن مبدإ نزول الوحى- لوجهين:
الأول: لاستحضار الماضي، ولعظمته على نحو ما في قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقول الرَّسُولُ} [214: البقرة]..فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويرا..
والثاني: لأن مبدأ النزول كان فيها، ولكن بقية الكتاب، وما فيه من تفصيل الأوأمر والأحكام- كان فيما بعد..فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر في مستقبل الزمان، حتى يكمل الدين!! وقوله تعالى: {من كل أمر} أي تتنزل الملائكة حاملة من كل أمرمن أوأمر اللّه، ومن أحكامه، ما يأذن اللّه لها به، كما تقضى بذلك حكمته..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أمرا مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [4- 5: الدخان].
وقوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفجر}.
أي أنها ليلة ولد فيها الأمن والسلام..من بدئها إلى ختامها..فهى ليلة القرآن..والقرآن من مبدئه إلى ختامه سلام وأمن كلّه، ورسالة القرآن هي (الإسلام) الذي هو السلام، والنجاة، لمن طلب السلامة والنجاة.!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر (1)}
اشتملت هذه الآية على تنويه عظيم بالقرآن فافتتحت بحرف (إنَّ) وبالإِخبار عنها بالجملة الفعلية، وكلاهما من طرق التأكيد والتقوّي.
ويفيد هذا التقديم قصرًا وهو قصر قلب للرد على المشركين الذي نفوا أن يكون القرآن منزلًا من الله تعالى.
وفي ضمير العظمة وإسناد الإِنزال إليه تشريف عظيم للقرآن.
وفي الإِتيان بضمير القرآن دون الاسم الظاهر إيماء إلى أنه حاضر في أذهان المسلمين لشدة إقبالهم عليه فكون الضمير دون سبق معاد إيماء إلى شهرته بينهم.
فيجوز أن يراد به القرآن كلُّه فيكون فعل: (أنزلنا) مستعملًا في ابتداء الإِنزال لأن الذي أُنزل في تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق ثم فتر الوحي ثم عاد إنزاله منجمًا ولم يكمل إنزال القرآن إلا بعد نيف وعشرين سنة، ولكن لما كان جميع القرآن مقررًا في علم الله تعالى مقدارُه وأنه ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجَّمًا حتى يتم، كان إنزاله بإنزال الآيات الأُول منه لأن ما ألحق بالشيء يعد بمنزلة أوله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه» الحديث فاتفق العلماء على أن الصلاة فيما أُلْحق بالمسجد النبوي لها ذلك الفضل، وأن الطواف في زيادات المسجد الحرام يصحّ كلما اتّسع المسجد.
ومن تسديد ترتيب المصحف أن وضعت سورة القدر عقب سورة العلق مع أنها أقلّ عدَد آياتت من سورة البينة وسُورٍ بعدها، كأنه إماء إلى أن الضمير في {أنزلناه} يعود إلى القرآن الذي ابتدئ نزوله بسورة العلق.
ويجوز أن يكون الضمير عائدًا على المقدار الذي أنزل في تلك الليلة وهو الآياتُ الخمسُ من سورة العلق فإن كل جزء من القرآن يسمى قرآنا، وعلى كلا الوجهين فالتعبير بالمضي في فعل {أنزلناه} لا مجاز فيه.
وقيل: أطلق ضمير القرآن على بعضه مجازًا بعلاقة البعضية.
والآية صريحة في أن الآيات الأوَل من القرآن نزلت ليلًا وهو الذي يقتضيه حديث بَدْء الوحي في (الصحيحين) لقول عائشة فيه: «فكان يتحنث في غار حراء اللياليَ ذواتت العَدَد» فكان تعبده ليلًا، ويظهر أن يكون الملك قد نزل عليه أثر فراغه من تعبده، وأما قول عائشة: «فرجع بها رسول الله يرجف فُؤاده» فمعناه أنه خرج من غار حراء إثر الفجر بعد انقضاء تلقينه الآيات الخمس إذ يكون نزولها عليه في آخر تلك الليلة وذلك أفضل أوقات الليل كما قال تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17].
وليلة القدر: اسم جعله الله للَّيلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن.
ويظهر أن أول تسميتها بهذا الاسم كان في هذه الآية ولم تكن معروفة عند المسلمين وبذلك يكون ذكرها بهذا الاسم تشويقًا لمعرفتها ولذلك عقب بقوله: {وما أدراك ما ليلة القدر} [القدر: 2].
والقَدْر الذي عُرفت الليلة بالإضافة إليه هو بمعنى الشرفف والفضل كما قال تعالى في سورة الدخان [3]: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} أي ليلة القدر والشرف عند الله تعالى مما أعطاها من البركة فتلك ليلة جعل الله لها شرفًا فجعلها مظهرًا لما سبق به علمه فجعلها مبدأ الوحي إلى النبي.
والتعريف (في القدر) تعريف الجنس.
ولم يقل: في ليلةِ قدرٍ، بالتنكير لأنه قُصد جعل هذا المركب بمنزلة العلَم لتلك الليلة كالعلَم بالغلبة، لأن تعريف المضاف إليه باللام مع تعريف المضاف بالإِضافة أوْغَلُ في جعل ذلك المركب لَقَبًا لاجتماع تعريفين فيه.
وقد ثبت أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185].
ولا شك أن المسلمين كانوا يعلمون ذلك إذ كان نزول هذه السورة قبل نزول سورة البقرة بسنين إن كانت السورة مكية أو بمُدة أقل من ذلك إن كانت السورة مدنية، فليلة القدر المرادة هنا كانت في رمضان وتأيد ذلك بالأخبار الصحيحة من كونها من ليالي رمضان في كل سنة.
وأكثر الروايات أن الليلة التي أنزل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانت ليلةَ سَبْع عشرة من رمضان.
وسيأتي في تفسير الآيات عقب هذه الكلامُ في هل ليلة ذات عدد متماثل في جميع الأعوام أو تختلف في السنين؟ وفي هل تقع في واحدة من جميع ليالي رمضان أو لا تخرج عن العشر الأواخر منه؟ وهل هي مخصوصة بليلة وترٍ كما كانت أول مرّة أوْ لا تختص بذلك؟
والمقصود من تشريف الليلة التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره، تنبيهًا على أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتًا شريفًا مباركًا لأن عظم قدر الفعل يقتضي أن يُختار لإِيقاعه فَضْل الأوقات والأمكنة، فاختيار فضللِ الأوقات لابتداء إنزاله ينبئ عن علوّ قدره عند الله تعالى كقوله: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 79] على الوجهين في المراد من المطهرين.
{وَمَا أَدْرَاكَ ما ليلة القدر (2)}
تنويه بطريق الإِبهام المراد به أن إدراك كنهها ليس بالسهل لما ينطوي عليه من الفضائل الجمّة.
وكلمة (ما أدراك ما كذا) كلمة تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه، والمعنى: أيُّ شيء يُعَرِّفك ما هي ليلة القدر، أي يعسر على شيءٍ أن يعرِّفك مقدارَها، وقد تقدمت غير مرة منها، قوله: {وما أدراك ما يوم الدين} في سورة الانفطار [17] قريبًا. والواو واو الحال.
وأعيد اسم {ليلة القدر} الذي سَبق قريبًا في قوله: {في ليلة القدر} [القدر: 1] على خلافف مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر الإِضمارُ، فقُصِد الاهتمامُ بتعيينها، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحًا، وحصلت كناية عن تعظيم ما أنزل فيها وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان.
{ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر (3)}
بيان أولُ لشيءٍ من الإِبهام الذي في قوله: {وما أدراك ما ليلة القدر} [القدر: 2] مثلُ البيان في قوله: {وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام} [البلد: 12، 14] الآية.
فلذلك فصلت الجملة لأنها استئناف بياني، أو لأنها كعطف البيان.
وتفضيلها بالخَيْر على ألف شهر.
إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة واستجابة الدعاء ووفرة ثواب الصدقات والبركة للأمة فيها، لأن تفاضل الأيام لا يكون بمقادير أزمنتها ولا بما يحدث فيها من حَر أو برد، أو مطر، ولا بطولها أو بقصرها، فإن تلك الأحوال غير معتدّ بها عند الله تعالى ولكن الله يعبأ بما يحصل من الصلاح للناس أفرادًا وجماعات وما يعين على الحق والخير ونشر الدين.
وقد قال في فضل الناس: {إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم} [الحجرات: 13] فكذلك فضل الأزمان إنما يقاس بما يحصل فيها لأنها ظروف للأعمال وليست لها صفات ذاتية يمكن أن تتفاضل بها كتفاضل الناس ففضلها بما أعدّه الله لها من التفضيل كتفضيل ثلث الليل الأخير للقربات وعدد الألف يظهر أنه مستعمل في وفرة التكثير كقوله: (واحد كألف) وعليه جاء قوله تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} [البقرة: 96] وإنما جعل تمييز عدد الكثرة هنا بالشهر للرعي على الفاصلة التي هي بحرف الراء.
وفي (الموطإ): «قال مالك إنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمارَ أمته أن لا يبلغُوا من العمَل مثلَ ما بلغ غيرهم في طول العُمر فأعطاه الله {ليلة القدر خير من ألف شهر}» أهـ.
وإظهار لفظ {ليلة القدر} في مقام الإِضمار للاهتمام، وقد تكرر هذا اللفظ ثلاث مرات والمرات الثلاث ينتهي عندها التكرير غالبًا كقوله تعالى: {وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب} [آل عمران: 78].
وقول عديّ:
لا أرى الموتَ يسبق الموتَ شيءٌ ** نَغَّص الموتُ ذا الغنى والفقيرا

ومما ينبغي التنبه له ما وقع في (جامع الترمذي) بسنده إلى القاسم بن الفضل الحُدَّاني عن يوسف بن سَعد قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال: سَّوَدتَ وجوهَ المؤمنين، أوْ يا مُسوِّد وجوهِ المؤمنين فقال: لا تؤنبني رَحمك الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر: 1] يا محمّد يعني نهرًا في الجنة، ونزلت: {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 1 3] يملكها بنو أمية يا محمدُ قال القاسم: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا يَزيدُ يومٌ ولا ينقص.
قال أبو عيسى الترمذي، هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازِن نعرفه والقاسم بن الفضل ثقة ويُوسف بن سَعْد رجل مجهول اهـ.
قال ابن كثير في (تفسيره) ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن كذا قال، وعيسى بن مازن غير معروف، وهذا يقتضي اضطرابًا في هذا الحديث، أي لاضطرابهم في الذي يروي عنه القاسم بن الفضل، وعلى كل احتمال فهو مجهول.
وأقول: وأيضًا ليس في سنده ما يفيد أن يوسف بن سعد سمع ذلك من الحسن رضي الله عنه.
وفي (تفسير الطبري) عن عيسى بن مازن أنه قال: قلت للحسن: يا مسود وجوه المؤمنين إلى آخر الحديث.
وعيسى بن مازن غير معروف أصلًا فإذا فرضنا توثيق يوسف بن سعد فليس في روايته ما يقتضي أنه سمعه بل يجوز أن يكون أراد ذكر قصة تُروى عن الحسن.
واتفق حذاق العلماء على أنه حديث منكر صرح بذلك ابن كثير وذكره عن شيخه المزي، وأقول: هو مختل المعنى وسمات الوضع لائحة عليه وهو من وضع أهل النحَل المخالفةِ للجماعة فالاحتجاجُ به لا يليق أن يصدر مثله عن الحسن مع فرط علمه وفطنته، وأيَّة ملازمة بين ما زعموه من رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين دفع الحسن التأنيب عن نفسه، ولا شك أن هذا الخبر من وضع دُعاة العباسيين على أنه مخالف للواقع لأن المدة التي بين تسليم الحسن الخلافة إلى معاوية وبين بيعة السفاح وهو أول خلفاء العباسية ألف شهر واثنان وتسعون شهرًا أو أكثر بشهر أو بشهرين فما نُسب إلى القاسم الحُدَّاني من قوله: فعددناها فوجدناها إلخ كذب لا محالة.
والحاصل أن هذا الخبر الذي أخرجه الترمذي منكر كما قاله المِزِّي.
قال ابن عرفة وفي قوله: {ليلة القدر خير من ألف شهر} المحسن المسمّى تَشابه الأطراف وهو إعادة لفظ القافية في الجملة التي تليها كقوله تعالى: {كمشكاة فيها مصباح المصباحُ في زجاجة الزجاجةُ كأنها كوكب دري} [النور: 35] أهـ.
يريد بالقافية ما يشمل القرينة في الأسجاع والفواصلَ في الآي، ومثاله في الشعر قول ليلى الأخيلية:
إذا نزل الحجاج أرضًا مريضة ** تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها ** غلامٌ إذا هز القناة سقاها

الخ.
{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أمر (4)}
إذا ضُم هذا البيان الثاني لما في قوله: {وما أدراك ما ليلة القدر} [القدر: 2] من الإِبهام التفخيمي حصل منهما ما يدل دلالةً بيّنة على أن الله جعل مثل هذه الفضيلة لكل ليلة من ليالي الأعوام تقع في مثل الليلة من شهر نزول القرآن كرامةً للقرآن، ولمن أنزل عليه، وللدِّين الذي نزل فيه، وللأمة التي تتبعه، ألا ترى أن معظم السورة كان لذكر فضائل ليلة القدر فما هو إلا للتحريض على تطلب العمل الصالح فيها، فإن كونها خيرًا من ألف شهر أومأ إلى ذلك وبينته الأخبار الصحيحة.
والتعبير بالفعل المضارع في قوله: {تنزل الملائكة} مؤذن بأن هذا التنزل متكرر في المستقبل بعد نزول هذه السورة.
وذِكر نهايتها بطلوع الفجر لا أثرَ له في بيان فضلها فتعين أنه إدماج للتعريف بمنتهاهَا ليحرص الناسُ على كثرة العمل فيها قبل انتهائها.
لا جرم أن ليلة القدر التي ابتدئ فيها نزول القرآن قد انقضت قبل أن يشعر بها أحد عدا محمد صلى الله عليه وسلم إذْ كان قد تحنث فيها، وأنزل عليه أول القرآن آخرها، وانقلب إلى أهله في صبيحتها، فلولا إرادة التعريف بفضل الليالي الموافقة لها في كل السنوات لاقتُصر على بيان فضل تلك الليلة الأولى ولما كانت حاجة إلى تَنزّل الملائكة فيها، ولا إلى تعيين منتهاها.
وهذا تعليم للمسلمين أن يَعظموا أيام فضلهم الديني وأيام نَعم الله عليهم، وهو مماثل لما شرع الله لموسى من تفضيل بعض أيام السنين التي توافق أيامًا حصلت فيها نعم عظمى من الله على موسى قال تعالى: {وذكرهم بأيام اللَّه} [إبراهيم: 5] فينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن.
وحكمة إخفاء تعيينها إرادةُ أن يكرر المسلمون حسناتهم في ليال كثيرة توخيًا لمصادفة ليلة القدر كما أخفيت ساعةُ الإِجابة يوم الجمعة.
هذا محصّل ما أفاده القرآن في فضل ليلة القدر من كل عام ولم يبين أنها أيَّةُ ليلة، ولا من أي شهر، وقد قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: 185] فتبين أن ليلة القدر الأولى هي من ليالي شهر رمضان لا محالة، فبنا أن نتطلب تعيين ليلة القدر الأولى التي ابتدِئ إنزال القرآن فيها لنطلب تعيين ما يماثلها من ليالي رمضان في جميع السّنين، وتعيين صفة المماثلة، والمماثلةُ تكون في صفات مختلفة فلا جائز أن تُماثلها في اسم يومها نحو الثلاثاء أو الأربعاء، ولا في الفصل من شتاءٍ أو صيف أو نحو ذلك مما ليس من الأحوال المعتبرة في الدين، فعلينا أن نتطلب جهة من جهات المماثلة لها في اعتبار الدين وما يرضي الله.
وقد اختُلف في تعيين المماثلة اختلافًا كثيرًا وأصح ما يعتمد في ذلك: أنها من ليالي شهر رمضان من كل سنة وأنها من ليالي الوتر كما دل عليه الحديث الصحيح: «تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان».
والوتر: أفضل الأعداد عند الله كما دل عليه حديث: «إن الله وِتر يحب الوتر».
وأنّها ليست ليلة معينة مطّردة في كل السنين بل هي متنقلة في الأعوام، وأنها في رمضان وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم قال ابن رشيد: وهو أصح الأقاويل وأوْلاها بالصواب.
وعلَى أنها متنقلة في الأعوام فأكثر أهل العلم على أنها لا تخرج عن شهر رمضان.
والجمهور على أنها لا تخرج عن العشر الأواخر منه، وقال جماعة: لا تخرج عن العَشْر الأوَاسط، والعَشْر الأواخر.
وتأوّلوا ما ورد من الآثار ضبطها على إرادة الغالب أو إرادة عام بعينه.
ولم يرد في تعيينها شيء صريح يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما ورد في ذلك من الأخبار محتمل لأن يكون أراد به تعيينها في خصوص السنة التي أخبر عنها وذلك مبسوط في كتب السنة فلا نطيل به، وقد أتى ابن كثير منه بكثير.
وحفظت عن الشيخ محي الدين بن العربي أنه ضبط تعيينها باختلاف السنين بأبيات ذكر في البيت الأخير منها قوله:
وضابطها بالقول ليلة جمعةٍ ** توافيك بعد النصفْ في ليلة وتر

حفظناها عن بعض مُعلمينا ولم أقف عليها.
وجربنا علامة ضوء الشمس في صبيحتها فلم تتخلف.
وأصل {تنزل} تتنزل فحذفت إحدى التاءَيْن اختصارًا.
وظاهر أن تنزل الملائكة إلى الأرض.
ونزول الملائكة إلى الأرض لأجل البركات التي تحفهم.
و{الروح}: هو جبريل، أي ينزل جبريل في الملائكة.
ومعنى {بإذن ربهم} أن هذا التنزل كرامة أكْرم الله بها المسلمين بأن أنزل لهم في تلك الليلة جماعات من ملائكته وفيهم أشرفهم وكان نزول جبريل في تلك الليلة ليعود عليها من الفضل مثل الذي حصل في مماثلتها الأولى ليلة نزوله بالوحي في غار حِراء.
وفي هذا أصل لإِقامة المواكب لإِحياء ذكرى أيام مجد الإِسلام وفضله وأن من كان له عمل في أصل تلك الذكرى ينبغي أن لا يخلو عنه موكب البهجة بتذكارها.
وقوله: {بإذن ربهم} متعلق بـ: {تنزل} إما بمعنى السببية، أي يتنزلون بسبب إذن ربهم لهم في النزول فالإِذن بمعنى المصدر، وإما بمعنى المصاحبة، أي مصاحبين لما أذِن به ربهم، فالإِذن بمعنى المأذون به من إطلاق المصدر على المفعول نحو: {هذا خلق الله} [لقمان: 11].
و{مِن} في قوله: {من كل أمر} يجوز أن تكون بيانية تبين الإِذن من قوله: {بإذن ربهم}، أي بإذن ربهم الذي هو في كل أمر.
ويجوز أن تكون بمعنى الباء، أي تتنزل بكل أمر مِثل ما في قوله تعالى: {يحفظونه من أمر اللَّه} [الرعد: 11] أي بأمر الله، وهذا إذا جعلت باء {بإذن ربهم} سببية، ويجوز أن تكون للتعليل، أي من أجل كل أمر أراد الله قضاءه بتسخيرهم.
و{كل} مستعملة في معنى الكثرة للأهمية، أي في أمور كثيرة عظيمة كقوله تعالى: {ولو جاءتهم كل آية} [يونس: 97] وقوله: {يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر} [الحج: 27] وقوله: {واضربوا منهم كل بنان} [الأنفال: 12].
وقول النابغة:
بها كلَّ ذيَّال وخنساءَ تَرْعوي ** إلى كل رَجَّاف من الرمل فارد

وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {وعلى كل ضامر} في سورة الحج (27).
وتنوين {أمر} للتعظيم، أي بأنواع الثواب على الأعمال في تلك الليلة.
وهذا الأمر غير الأمر الذي في قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] مع أن {أمرا من عندنا} في سورة الدخان [5] متحدة مع اختلاف شؤونها، فإن لها شؤونًا عديدة.
ويجوز أن يكون هو الأمر المذكور هنا فيكون هنا مطلقًا وفي آية الدخان مقيدًا.
واعلم أن موقع قوله: {تنزل الملائكة والروح فيها} إلى قوله: {من كل أمر}، من جملة: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3] موقع الاستئناف البياني أو موقع بدل الاشتمال فلمراعاة هذا الموقع فصلت الجملة عن التي قبلها ولم تعطف عليها مع أنهما مشتركتان في كون كل واحدة منهما تفيد بيانًا لجملة: {وما أدراك ما ليلة القدر} [القدر: 2]، فأوثرت مراعاةُ موقعها الاستئنافي أو البدلي على مراعاة اشتراكهما في كونها بيانًا لجملة: {وما أدراك ما ليلة القدر} لأن هذا البيان لا يفوت السامع عند إيرادها في صورة البيان أو البدل بخلاف ما لو عطفت على التي قبلها بالواو لفوات الإِشارة إلى أن تنزل الملائكة فيها من أحوال خيريتها.
وجملة: {سلام هي حتى مطلع الفجر} بيان لمضمون {من كل أمر} وهو كالاحتراس لأنّ تنزّل الملائكة يكون للخير ويكون للشر لعقاب مكذبي الرسل قال تعالى: {ما تنزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذًا منظرين} [الحجر: 8] وقال: {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين} [الفرقان: 22].
وجُمع بين إنزالهم للخير والشر في قوله: {إذ يُوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق} [الأنفال: 12] الآية، فأخبر هنا أن تنزل الملائكة ليلة القدر لتنفيذ أمر الخير للمسلمين الذين صاموا رمضان وقاموا ليلة القدر، فهذه بشارة.
والسلام: مصدر أو اسم مصدر معناه السلامة قال تعالى: {قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم} [الأنبياء: 69].
ويطلق السلام على التحية والمِدحة، وفسر السلام بالخَيْر، والمعنيان حاصلان في هذه الآية، فالسلامة تشمل كل خير لأن الخيْر سلامة من الشر ومن الأذى، فيشمل السلامُ الغفرانَ وإجزال الثواب واستجابة الدعاء بخير الدنيا والآخرة.
والسلام بمعنى التحية والقول الحسن مراد به ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر كدأبهم مع أهل الجنة فيما حكاه قوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}
[الرعد: 23، 24].
وتنكير {سلام} للتعظيم.
وأخبر عن الليلة بأنها سلام للمبالغة لأنه إخبار بالمصدر.
وتقديم المسند وهو {سلام} على المسند إليه لإِفادة الاختصاص، أي ما هي إلا سلام.
والقصر ادعائي لعدم الاعتداد بما يحصل فيها لغير الصائمين القائمين، ثم يجوز أن يكون {سلام هي} مرادًا به الإِخبار فقط، ويجوز أن يراد بالمصدر الأمر، والتقدير: سلِّمُوا سلامًا، فالمصدر بدل من الفعل وعدل عن نصبه إلى الرفع ليفيد التمكن مثل قوله تعالى: {قالوا سلامًا قال سلام} [الذاريات: 25].
والمعنى: اجعلوها سلامًا بينكم، أي لا نزاع ولا خصام.
ويشير إليه ما في الحديث الصحيح: «خرجتُ لأخْبِرَكم بليلة القدر فتلاحَى رجلان فرُفِعَتْ وعسى أن يكون خيرًا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة».
و{حتى مطلع الفجر} غاية لما قبله من قوله: {تنزل الملائكة} إلى {سلام هي}.
والمقصود من الغاية إفادة أن جميع أحيان تلك الليلة معمورة بنزول الملائكة والسلامة، فالغاية هنا مؤكدة لمدلول {ليلة} [القدر: 1] لأن الليلة قد تطلق على بعض أجزائها كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذَنْبه» أي من قام بعضها، فقد قال سعيد بن المسيب: من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحَظه منها.
يريد شهدها في جماعة كما يقتضيه فعل شهد، فإن شهود الجماعة من أفضل الأعمال الصالحة.
وجيء بحرف {حتى} لإِدخال الغاية لبيان أن ليلة القدر تمتد بعد مطلع الفجر بحيث أن صلاة الفجر تعتبر واقعة في تلك الليلة لئلا يتوهم أن نهايتها كنهاية الفِطر بآخر جزء من الليل، وهذا توسعة من الله في امتداد الليلة إلى ما بعد طلوع الفجر.
ويستفاد من غاية تَنَزُّللِ الملائكة فيها، أن تلك غاية الليلة وغاية لما فيها من الأعمال الصالحة التابعة لكونها خيرًا من ألف شهر، وغاية السلام فيها.
وقرأ الجمهور: {مطلع} بفتح اللام على أنه مصدر ميمي، أي طلوع الفجر، أي ظهوره.
وقرأه الكسائي وخَلف بكسر اللام على معنى زمان طلوع الفجر. اهـ.